جثة سالم


جثة سالم

وقف مسعود في حيرة أمام الجثة المسجاة أمام دكانه، وسأل نفسه مندهشاً "بعد الفجر.. حبكت؟".. دقق النظر في ملامح الوجه وقال هامساً "هو بعينه.. يبقى جثة ولاّ مش جثة؟".. عندما استبعد فكرة الموت عن صاحب الجثة، استغفر الله؛ إنه ليس كأحد من عباد الله في البلد، إنه "الريس سالم" أو "سالم بيه" رئيس الأمن والحاكم الفعلي لهذه القرية الصغيرة، ولذلك استبعد مسعود مسألة قتله.. "أعوذ بالله"، لعله فصل من فصول سالم الباردة التي دائماً ما يُمطر بها أهل القرية تحت مُسمى "اختبارات الوطنية"، أليس سالم من قام بالأمس البعيد بأمر أحد عسكره بإلقاء نفسه في عرض الطريق محدثاً بجسده بعض خدع الماكياج السينمائية التي توهم من يراه أنه قتيلاً، وعندما رآه بعض المارة فرحوا وهللوا ولعنوا سالم وعسكر سالم واليوم الذي ابتليت البلاد فيه بسالم، وما إن تنتهي وصلة السباب حتى يقوم العسكري من مكانه ويقبض على المواطنين، ثم يخرج "الووكمان" من جيب جلبابه مسجلاً عليه دليل إدانتهم "كراهية نظام سالم".

تذكر مسعود ما حدث وقال "لكن سالم بنفسه عامل نفسه جثة.. دي لازم في حاجة خِطرة جدت في البلد"، يقترب أكثر من الجسد الممدد، ثم يقول في صوت عال نسبياً "الله يرحمك يا سالم بيه.. والله ما عارف أقرا لك الفاتحة ولا أدعي ربنا معجزة تحصل تقوم تدب فيك الروح وترجع لبلدك وناسك، ولو إن حتى وسيادتك لا مؤاخذة لا مؤاخذة ميت، شكلك مليان بالروح والإنسانية.. الله يرحمك"
لم يتحرك "سالم" من مكانه، تذمر مسعود وقال في نفسه "ده بدال ما يقوم يشكرني؟.. وبعدين مالقاش إلا مكان أكل عيشي يعمل فيه ميت بصلصة الطماطم اللي فوق جلابيته دي، والله والله لولا الجبن اللي الواحد فيه، كنت ناديت فوزية مراتي تلم شوية من اللي على صدرك في حلة ينفعونا ف أيام الزنقة دي" خُيل لمسعود أن سالم قد تحرك، أو لعله تحرك فعلاً، فأدرك أن لعناته لسالم في السر جعلته يتحرك لينتقم، فقال من فوره "الله يرحمك يا سالم بيه" ثم قرأ الفاتحة، وجلس على مقربة منه.
في ذلك اليوم بعث سالم بالعسكر جميعاً في مهمة رسمية بالخارج تستغرق أياماً قلائل، وقال لهم متحدياً عندما أصر البعض على البقاء معه "مش هاعرف أحكمها لوحدي؟!"؛ لذلك كان مسعود شبه متأكد من أن سالم يريد أن يحبك واحدة من تمثيلياته العديدة على أهل القرية، وبالتالي حلف بألا ينوله غرضه الدنيء "أنا أتسجن؟"، الغريب أن مسعود لم يخف أن يُتهم بجريمة قتل، وكأن لديه يقين بأن الحياة تدب في سالم بنسبة 99.99 في المائة.

لم يكن مسعود وحده يعتقد في ذلك، فعندما بدأت الشمس في الشروق، وبدأ الناس في الخروج لمصالحهم، تجمعوا عند جثمان سالم، أشار لهم مسعود بالتزام الصمت.. فهموا مقصده، وبدأت قصائد المدح والرحمة تتنزل على رأس سالم، لكن سالم لم يستجب لهتافاتهم.. وعلى الرغم من ذلك لم يفكر أحد في احتمالية وفاته. اقترح أحدهم أن يتم نقله إلى دار الضيافة التي يمتلكها، حيث يأخذ راحته، لم يناقشه أحد، فوجود سالم في حد ذاته في أي مكان أمر مقبض حياً كان أو ميتاً لا حول له.
في دار الضيافة قاموا بتمديده على الكنبة، وجلسوا حوله، وقرأوا الفاتحة، ثم قال مسعود: "ما تستبعدوش يا جماعة إن المعجزة تحصل والروح ترجع له، إحنا لازم كل واحد فينا يخلي مراته تعمل اللي فيه النصيب ونسيبه قدامه، ده راجل واحداني لا ست ولا عيال".. وافق الجميع على الاقتراح ممنيين أنفسهم برضا سالم عليهم عندما يسدل الستار على مسرحيته. كان مشهد الدخول بالطعام ووضعه أمام الجثة أشبه بتقديم القرابين. عندما أغلقوا الباب خلفهم، تنفسوا الصعداء، وأخذوا كعادتهم يلعنون في أنفسهم "ابن المحظوظة".


لم تكن رائحة العفن المنبعثة من دار الضيافة دليلاً كافياً على وفاة سالم، كان بعضهم يتحجج بأن الطعام ربما قد فسد. يقيناً خفياً داخلهم هذه المرة يؤكد أن سالم قد مات بالفعل، لكن رغبة انتقامية أقوى منهم دفعتهم لتخيل أنه لا زال حياً.

مروة
كُتبت في 9 أكتوبر 2010

Comments

P A S H A said…
هايلة جـــــداً بجد
تسلم الأيادي برافو والله يا أستاذة
:)
خالص تحياتي
βent Pasha said…
اللي بيخاف من عفريت بيعمل له ألف حساب
جميلة وأسلوب سردك ليها رائع
:-)
تحياتي لما خطت يداكِ

تقبلي مروري

Popular posts from this blog

من الزقازيق لمصر الجديدة! ا

وما الدنيا إلا فرن كبير!ا

سنة أولى ابتدائي